الثلاثاء، 23 أغسطس 2011

مدخل إلى الأناركية ليز هايليمان (1988) تعريب: جوزيف أيوب



مدخل إلى الأناركية
ليز هايليمان (1988)
تعريب: جوزيف أيوب


ما هي الأناركية؟

إن الأناركية فلسفة سياسية مكتنفة في سوء الفهم. إلى حد كبير، يرجع هذا إلى حقيقة أن الفوضوية هي طريقة مختلفة في التفكير، حيث لا يمكن وصفها بشعارات بسيطة أو خطوط حزبية. في الواقع، إذا سألت عشرة أناركيين عن الأناركية، من المحتمل أن تحصل على عشرة إجابات مختلفة. الأناركية هي أكثر من مجرد فلسفة سياسية، بل هي طريقة حياة تشمل جوانب سياسية وعملية وشخصية.
إن العقيدة الأساسية للأناركية هي أن السلطة الهرمية - سواء كانت دولة، كنسية، بطريركية أم نخبة اقتصادية - ليست بضرورية فحسب، بل هي ضارة في حد ذاتها لتحقيق الحد الأقصى من الإمكانات البشرية. يعتقد الأناركيون عموما أن البشر قادرون على إدارة شؤونهم بأنفسهم على أساس الإبداع، التعاون، والاحترام المتبادل. هي اعتقاد بأن القوة بطبيعتها مفسدة، والسلطات حتما معنية باستمرارها الذاتي وزيادة طاقتها الخاصة، أكثر من القيام بما هو أفضل لناخبيها. عموما إن الأناركيين هم محافظين حيث أن الأخلاق مسألة شخصية، وينبغي أن تستند على رعاية الآخرين ورفاهية المجتمع، وليس بناء على قوانين تفرضها السلطة القانونية أو الدينية (بما في ذلك القوانين المبجلة مثل دستور الولايات المتحدة). معظم الفلسفات الأناركية تعتقد أن الأفراد مسؤولون عن تصرفاتهم الخاصة. السلطات الأبوية تعزز العقلية المذلة حيث يتوقع من النخب اتخاذ القرارات وتلبية احتياجات الناس، بدلا من التفكير والعمل لأنفسهم. عندما تعطي سلطة لنفسها الحق في نقض أبسط القرارات الأخلاقية الشخصية، مثل من أجل ماذا يستحق القتل أو الموت (كما في التجنيد العسكري أو الإجهاض)، تتقلص حرية الإنسان بشكل لا يقاس.
يدرك الأناركيون بأن الاتصال بين مختلف أشكال القمع - بما في ذلك التمييز على أساس التحيز الجنسي، العنصري، الجنسي المغاير، الطبقي، والشوفيني الوطني- والاعتراف بعدم جدوى المعارضة، تركز على نموذج واحد للظلم في حين أن هناك أشكال أخرى لا تزال موجودة. يعتقد الأناركيون أن الوسائل التي تستخدم لتحويل العالم يجب أن تكون متلائمة مع الغايات التي يأمل المرء في تحقيقها. يعترض الأناركيون حول الاستراتيجيات والتكتيكات -بما في ذلك الحاجة إلى منظمات رسمية- واستخدام الإجراءات العنيفة للإطاحة بالمؤسسات العنيفة القائمة، بينما يتفق الأغلبية على أن التركيز يجب أن لا يكون مجرد تدمير النظام الحالي، ولكن على تشكيل بدائل جديدة أكثر إنسانية وأكثر عقلانية لتأخذ مكانها.
الأناركيون في التاريخ
لعب الأناركيون دوراً في الحركات الثورية على مر التاريخ. بدأت الثورة الفرنسية في عام 1789 ذات عنصر بروتوفوضوي قوي. في بداية القرنين التاسع عشر والعشرين لعب أناركييون مثل بيير جوزيف برودون، بيتر كروبوتكين، ميخائيل باكونين، وأريكو مالاتيستا دوراً أساسياً في تطوير النظرية الأناركية الثورية. ولعبوا دوراً كبيراً في الحركات الثورية في روسيا في عام 1905 و 1917، ولكنها -الحركة الأناركية- في كثير من الأحيان قمعت بلا رحمة بمجرد أن البلاشفة وحدت سلطتها. كما مهدت الثورة الاسبانية 1936-1939 الطريق للتعبير على أوسع نطاق والأكثر شهرة للممارسات الفوضوية، والتي عملياً أنشأت بنجاح المنظمات الأناركية النقابية (FAI وCNT)، بدائل غير هرمية اجتماعياً واقتصادياً. في الولايات المتحدة، وكذلك في المكسيك وأميركا اللاتينية، كان هناك تأثير للأناركية السينديكالية داخل الحركة النقابية (على سبيل المثال العمال الصناعيين في العالم). في بدايات 0019 شارك أناركييون بارزون مثل غولدمان إيما والكسندر بيركمان في مجموعة متنوعة من القضايا الراديكالية. كان هناك تيار أناركي قوي في العديد من التغييرات الاجتماعية وحركات تبديل نمط الحياة قي العام 1960 (بما في ذلك أجزاء من الحركة النسوية، حركة تحرير مثلي الجنس، الحركات المناهضة للحرب وحركات الخطاب الحر)، رغم أنه في كثير من الحالات كان يتم تعتيم هذه الحركات، إن لم يكن قمعها بصراحة، عن طريق التيارات الماركسية - اللينينية - الماوية.
ما هو غير الأناركية
في محاولة لتوضيح ما هي الأناركية، فمن المفيد دراسة ما ليس أناركياً :
الشيوعية: في حين أن العديد من الأناركيين يقدّرون الطائفية والجماعية، يرفض الأناركيون حالة الشمولية الشيوعية القائمة والساقطة في الآونة الأخيرة، أو بدقة أكثر الماركسية اللينينية. تطور الخلاف بين الماركسيين والأناركيين في وقت مبكر من 1870 عندما نظر الأناركيون أن الماركسيين يستمرون باستبدادهم تحت اسم مختلف. وقد أكدت المجموعات الماركسية اللينينية على الحاجة إلى حزب الطليعة، وديكتاتورية البروليتاريا، هذه الأفكار التي تعارض بشكل أساسي الأفكار الفوضوية المناهضة للاستبداد والمنادية بالحرية الفردية القصوى. على الرغم من أن الماركسية الارثوذكسية تتنبأ بأن الدولة سوف "تتلاشى" مع مرور الوقت، فقد شهدنا مرارا وتكرارا في الأنظمة الشيوعية توحيد سلطة الدولة وقمعها بالترافق مع الإصرار على الطاعة.
التحررية : كثيرا ما يجري الخلط بين الليبراليين الأناركيين، والقيام بالتشابك في كثير من النواحي. يتقاسم الفريقان على التركيز على الحرية الفردية والرغبة في التخلص من الدولة. يولي الكثير من الليبراليين الأهتمام للفرد والتأكيد على مبدأ المصلحة الذاتية المستنيرة. في حين يميل كثير من الأناركيين إلى التركيز أكثر على المساعدة المتبادلة والجهود المبذولة لتحسين ظروف جميع أفراد المجتمع. غالبا ما تتسم الليبرالية بوجهة نظرها الاقتصادية، الأمر الذي يضع الحد الأقصى المسموح به دون عائق على رأسمالية السوق الحرة (بعض أنصار يطلقون على أنفسهم "أناركيين رأسماليين")، استباحة استخدام القوة في الدفاع عن الملكية الخاصة، تعارض أي تدخل حكومي يعيق الجهود لتعظيم المكاسب الاقتصادية الشخصية، وتخفيض القيم التي لا يمكن قياسها (عادة نقدية) اقتصادياُ. في حين أن الليبراليين مناهضين للدولة ، فإنهم غالبا لا يعارضون الهيمنة والتسلسل الهرمي في جميع أشكاله (غالبا ما يكون هناك ميل إلى "البقاء الأصلح" أو "[الاقتصاد] القوة تصنع الحق" في الفلسفة الليبرالية)، وعدم البحث جذرياً في تغيير علاقات القوة الاجتماعية، ولا سيما تلك القائمة على القوة الاقتصادية. يميل الأناركيون أكثر إلى المنظور الاشتراكي، ويفضلون التخلص من أي نظام حيث يستطيع الأثرياء تحقيق المنفعة غير المتناسقة مع من هم أقل حظا الذين يعانون من مشقة لا مبرر لها. بينما يقدر الأناركيون المبادرة الفردية، الذكاء، والإبداع، فمن المسلم به أن الذين يمتلكون هذه المواهب يعاملوا باحترام وعدالة. الموضوعية هي نوع من التطرف الليبرالي. الحزب الليبرالي معتدل نسبياً، ويميل إلى التركيز على قضايا مثل إصلاح النظام الانتخابي وإلغاء قوانين المخدرات، والحد من التنظيمات الحكومية. العديد من الليبراليين هم "ملاكيين" الذين يعتقدون أن بعض أشكال الحكومة أمر ضروري إلا أنها ينبغي أن تكون ضعيفة وغير مزعجة. مسألة ما هو نوع النظام الاقتصادي في المجتمع الأناركي هو أمر مفتوح. يعتقد بعض الأناركيون أنه يجب إلغاء جميع أشكال الرأسمالية واقتصاد السوق، والبعض الآخر يفضل النظام الذي يعزز ملكية العمال والديمقراطية القائمة على المشاركة الكاملة في إطار اقتصاد السوق، والبعض الآخر لا يزال يعتقد أن مجموعة متنوعة من النظم الاقتصادية يمكن أن تتعايش طالما انهم لا يحاولون فرض نظمها وقيمها على بعضها البعض.
الليبرالية: إن المفاهيم السياسية السائدة في هذا البلد تعادل ما بين اليسارية والأناركية وما بين اليسارية والليبرالية، ولكن هناك اختلافات حقيقية، من حيث الكم والنوع. إن فكرة "اليسار" هو مشكلة منذ 1990، حيث أن الكثير من السياسات الحديثة تميل إلى أن التموضع خارج اليسار التقليدي (ليبرالي) / اليمين (المحافظ). رغم أن معظم الأناركيين يدعمون القضايا "التقدمية" ولكن الأناركية لا تأخذ مكانها في التيار السياسي التقليدي. وقد اقترح بعض المنظرين منظومة على درجة من التسلط الاقتصادي والتسلط الاستبداد الاجتماعي باعتبارهما محورين منفصلين، كثير من الأحيان أولئك الذين يفضلون الحرية الاقتصادية يعارضون الحرية الاجتماعية، والعكس بالعكس. الكثير من السياسات التقدمية الحديثة تستند على "سياسة الهوية"، والفكرة التي تجذب اهتمامات المرء الأولية وتحالفاته هي على أساس الجنس / العرق / التوجه الجنسي. على الرغم من أن العديد من الأناركيين يستثمرون سياسة الهوية ، تتطلع الفلسفة الأناركية الأكثر شمولا الى الوقت الذي كان لا يحتاج فيها الناس إلى التركيز كثيرا على مثل هذه التصنيفات. في حين يميل الليبراليون إلى الدعوة للجهود الرامية إلى إصلاح النظام الحالي (من خلال وسائل مثل التصويت، الضغط، وبروز المنظمة)، للأناركيين وجهة نظر أكثر تطرفا، ويتمنون أن تستبدل المؤسسات الفاسدة تماما، وإعادة تشكيل مجتمع أكثر إنسانية من خلال وسائل العمل المباشر، من دون الاعتماد على أي شكل من أشكال تدخل الدولة. كما يعترف الأناركيون بقوة التطور عموما ، كذلك التبدل الثوري، كذلك يعترف بأنه من أجل تحقيق إعادة ترتيب حقيقي للمجتمع من الضروري القضاء على هيمنة العلاقات الهرمية أينما وجدت، تاريخيا لم يكن هذا أولوية الليبراليين. يسلم الأناركيون بأن شكل السلطة نفسها (سواء كانت رأسمالية، شيوعية، ديمقراطية أو توتاليتارية) هي منبع المشكلة، وعلى هذا النحو ، لا يمكن أن تكون أساسا للحل. بالرغم من أن بعض الأناركيين يرتبطون بالتصويت وينظمون الاحتجاج معتقدين بأن حتى التحسينات الصغيرة هي ترجمة جديرة بالاهتمام ، ويدركون أن مثل هذه الأنشطة هي مجرد خطوات مؤقتة، يجب على المرء أن يتخطاها لتحقيق تغيير حقيقي ودائم.
العدمية : وخلافا لعقيدة "معاداة كل شيء" في العدمية، الأناركيون لا يشجعون على العنف العشوائي، التدمير، و "كل رجل لنفسه" الخروج على القانون (على الرغم من أن هناك دائما عدد قليل من متبعي هذه الفلسفة يسمون أنفسهم "فوضويون"). والاعتقاد السائد بأن الأناركية تعادل الفوضى هو للأسف اعتقاد خاطئ نشأ من الاعتقاد وعلى نطاق واسع، غرس من قبل من هم في السلطة، أن هذه السلطة أمر ضروري للحفاظ على النظام. يعتقد الأناركيون أن تحقيق مجتمع كفوء، منظم، وعادل يكون على أسس غير مبنية على الهرمية، اللامركزية، والمشاركة.
بعض المسائل الخلافية
تحمل الأناركية وجهات نظر متباينة حول العديد من القضايا. واحدة من الخلافات الرئيسية هي مسألة الفرد مقابل المجتمع. تهتم الأناركية الفردية أهمية قصوى على حرية الفرد، في حين يركز الأناركيون الشيوعييون (والأناركيون السنديكالييون) على مصلحة الفئة الاجتماعية ككل، يكون المنفعيون في مكان ما بينهما. في المجتمع الأناركي المثالي، يتأمل تلبية احتياجات المجتمع ككل بطريقة عادلة دون المساس اللا مبرر بحرية الإرادة وتقرير المصير من قبل الأفراد.
مناقشة أخرى داخل الحركة الأناركية تتعلق بقضايا البيئة والتكنولوجيا
تشير الأناركية الكلاسيكية إلى تشابهاً مع مفاهيم الماركسية التقليدية لقيمة العلم والعقلانية، والمبدأ القائل أن التقدم التكنولوجي يفيد المجتمع عموما. يعتقد الكثير من الأناركيين الحديثين أن التكنولوجيا في حد ذاتها لا جيدة ولا شريرة، ولكن يجب أالتدقيق بها وتطبيقها بطريقة مسؤولة اجتماعيا من أجل تقديم خدمة أفضل لأولئك الذين يستخدمونها، وتتأثر بها. آخرون أناركييون معاصرون لديها تكنولوجيا مضادة، منظور وسطي بيئي (الأكثر تطرفا للبدائية و اللاضية الجدد)، ويعتقدون أن المجتمع الأناركي يمكن تحقيقه من خلال التخلي عن التقدم التكنولوجي والعودة أكثر إلى البدائية، متموضعاً ومتناغم بيئياً لطريقة الحياة.
إن مسألة القومية مهمة أيضاً. بصفة عامة، يدعو الأناركيون إلى فكرة الأممية (أو بالأحرى، اللاوطنية) وتصوير مظاهر القومية والوطنية كمحاولة تقوم بها الدولة لزيادة قوتها من خلال تشجيع الانقسامات المصطنعة بين الناس. الدولة القومية هي بنية تخدم مصالح النخب المختلفة، في حين أن طبقات السكان الأدنى لا تزال في ظروف يرثى لها كما هو الحال في جميع أنحاء العالم. على الرغم من هذا، فإن بعض الأناركيين يحافظون على دعم النضالات التحررية الوطنية (مثلا الجهود التي يبذلها الفلسطينيون في منطقة الشرق الأوسط، القوميون السود في الولايات المتحدة، والشعوب الأصلية المظلومة في كل مكان) معتقدين بأن الدول الصغيرة المستقلة، وإن كانت استبدادية، هي أفضل من الإمبراطوريات الاستغلالية.
التيارات داخل الحركة الأناركية الحديثة
إن "الحركة الأناركية" في يومنا هذا ينظر إليها بشكل أكثر دقة باعتبارها مجموعة من الحركات المختلفة ذات العديد من المظاهر السياسية والفلسفية المشتركة. بناء عليه، وأحيانا بشكل متباين للمبادئ الأناركية الكلاسيكية، نرى عدة مجموعات تقوم بتوسيع نطاق الأناركية المعاصرة، وبإعادة تعريف المفاهيم التقليدية للأناركية.
إن الأناركية النسوية تخلط المثل العليا للانسوية والأناركية. تركز الأناركية النسوية على تحرير المرأة ودور البطريركية أكثر من الأناركية الكلاسيكية، ولكن ليس لدرجة استبعاد غيرها من أشكال القمع (كما فعلت بعض أنواع الحركات النسوية الأخرى). لا تعتبر كل النساء الأناركيات أنفسهم أناركية نسوية، حيث لا يجب على الأناركية النسوية أن تكون انثى بالتحديد- إلى حدٍ كبير هناك تمييز بين كيف أن "محور المرأة " يبنى على القيم من جهة والتشديد على جوانب الهيمنة من جهة أخرى. كما هو الحال مع العديد من الحركات السياسية في يومنا هذا، حيث أن مسألة الانفصال بين الجنسين لا تزال دون حل. من جهة، إن الاستمرار ضمن الحركة الأناركية في ظل الانقسامات المصطنعة بين الجنسين والتي فرضت من قبل النظام الاجتماعي الهرمي والذكوري تكون معادية لخلق مساواة حقيقية، وإلى كسر الحواجز التي يأمل الأناركيون في تحقيقه. من جهة أخرى، تشعر العديد من النساء بضرورة الحفاظ على مساحة للمرأة داخل الحركة التي كان عادة ما يسيطر عليها الذكور، وتعتقد أنه يجب الإعتراف بشرعية قضايا المرأة وإدماجها في الفلسفة الأناركية قبل التمكن من تحقيق الوحدة الوطنية. عموما ترفض الأناركية النسوية حلول الدولتية لمشاكل المرأة (مثل الرقابة على المواد الإباحية في محاولة للحد من العنف ضد المرأة) لصالح التمكين الذاتي والعمل المباشر. يمكن وصف تنظيم الأناركية النسوية بالتركيز على اللامركزية، العمل واتخاذ القرارات على مستوى القاعدة الشعبية. عموما تعتقد الأناركية النسوية أن أفضل طريقة لتحقيق إمكانات الإنسان تكون عن طريق تجاوز الأدوار التقليدية للجنسين، وتشجيع تطوير "ذكورية" مفيدة وصفات "أنثوية" في جميع الناس، والمساواة في كل العلاقات.
يركز العديد من الأناركيين الحديثين على تطبيق المثل العليا لحرية الإرادة وتقرير المصير على حياتهم الشخصية. ضمن هذا التوجه هناك تشديد على قبول خيارات عدة في مجال الجنس، والأسرة، والعلاقات بين الأشخاص. ينبغي أن تقوم العلاقات على الاختيار الحر، وموافقة جميع الأفراد المعنيين، وليس بتكليف من القيود الحكومية أو الدينية أو الاجتماعية. هناك العديد من االشاذين الأناركيين- لواط، سحاق، مخنثين، ولا سيما المخنثين- تعزيز الأناركية لانهيار خطط التصنيف التقليدية تبدو ذات أهمية خاصة لأولئك الذين مع المنظمات غير التقليدية و / أو المهمشة للهويات الجنسية والجنس. كما هو الحال مع الحركات النسائية تحتضن بعض الجماعات الشاذة (لواط/ سحاق) للمبادئ المعادية للاستبدادية والعمل المباشر (على سبيل المثال، نشطاء الايدز الذين ينظمون برامج تبادل الإبر والنوادي التي تشتري ادارة الأغذية والأدوية الأميركية). مع الاعتراف بأن الوصايا التقليدية مثل الزواج، الأسرة الأبوية، والاستنساخ القسري هي لخدمة مصالح من هم في مواقع الحكم والسلطة، يؤكد الأناركيون على استكشاف الإبداع، وبدائل العلاقة الطوعية مثل زواج غير الأحادي، الأسر الممتدة، وطائفية تربية الأطفال، بالإضافة إلى الخيارات التقليدية الأكثر شيوعا. يريد الأناركيون عموما الحصول على حكومة خارجة عن أعمال تصديق العلاقات الشخصية، بدلا من التوسع في تصديق علاقات اثلي الجنس. عادة يعارض الأناركيون الشاذون الجهود الرامية إلى زيادة وجود مثلي الجنس في المؤسسات القمعية مثل الجيش.
على نقيض التزام الأناركية الكلاسيكية للإلحاد (إلى حد كبير استجابة لتأثير سلبي للمؤسسات الدينية التقليدية السلطوية)، يؤكد العديد من الأناركيين الحديثين على القيم الروحية (في كلا الوثنية الجدد المتنوعة واللاهوتي المتحرر داخل الديانات التقليدية). وهذا يعكس الاعتقاد بأن تحقيق الحد الأقصى من الإمكانات البشرية يتطلب اعترافا في الجانب الروحي والجاتب المتسامي لشخصية الإنسان وثقافته فضلا عن عقلانيته. في مجال الأخلاق، يعتمد الأناركيون على الشخصية المسؤولة والمهتمة بالآخرين بدلا من التركيز على التصريحات للسلطات القانونية أو الأخلاقية. عموما يؤكد الأناركيون الروحانيون على الترابط بين جميع أشكال الحياة، وعادة تتزامن معتقداتهم مع اولئك الموجهين ايكولوجياً، الأناركيون المهتمون بالطبيعة. حتى الآن لا يزال هناك عنصر الحادي جوهري بين الأناركيون الذين يعتقدون أن فكرة "القدسية" والاعتماد على "النظام العالي" لتعزيز المفاهيم الهرمية التقليدية معادية لتحقيق الحرية الإنسانية الكاملة.
إن المثل الأناركية غالبا ما تتبنى من قبل شباب بغاء، أصحاب الفن البديل، الهذيان "الطفيليين" وثقافات طلبة راديكاليين. يحاول هؤلاء الشباب الهروب من الظلم والإغتراب في المجتمع الاستهلاكي السائد من خلال تشكيل جماعات مقاومة على أساس أن العمل المباشر وسيلة لتحقيق الاعتماد على الذات مثل العيش الجماعي، الخضوع، محلات معلوماتية وخلق بدائل اقتصادية مثل تعاونيات مستقلة غذائية، إنتاج وتوزيع الموسيقى غير التجارية. في حين أن هؤلاء الشباب يقبلون العديد من المعتقدات الكلاسيكية الأناركية (وإن لم يكن عادة تحت هذه التسمية)، فإنهم عادة ما يكونوا أكثر اهتماما بتطبيق مبادئ مكافحة الاستبداد وتقرير المصير بطريقة عملية لممارسة المقاومة وحياتهم اليومية. مع ذلك، يتجنب بعض الأناركيون المعاصرون "الحياة النمطية"، وبدلا من ذلك يركزوا على بناء مزيد من المجموعات رسمية وشبكات التي يمكن أن تنظم تغيير اجتماعي أوسع.
يرتبط الأناركيون بنسق واسع من وسائل النشر، إن كانت صحف غير رسمية أو قانونية وناشري الكتب ذو تاريخ طويل. يستخدم الأناركيون الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصالات الالكترونية على نحو متزايد. كثيراً ما وصف الإنترنت بأنه مثالاً للفوضى، وبالفعل نمى وازدهر مع غياب سلطة الحكومة المركزية. توفر الاتصالات الالكترونية وسيلة لتجاوز الحدود الوطنية، ويمكن التقليل من أهمية الحواجز الثقافية كما العرق والجنس أيضاً. مع ذلك، هناك خطر واضح على أن زيادة الاعتماد على الاتصالات الإلكترونية من شأنه أن يعزز الحواجز الاقتصادية، وخلق مجتمع من "يملكون" المعلومات ومن "لا يملكون". استخدم الأناركيون الاتصالات الالكترونية لوضع الخطط، نشر الأخبار الهامة، تبادل المعلومات، هناك لوائح بريدية ومجموعات من أعضاء مكرسين لمكافحة اللاسلطويين والأناركيون، فضلا عن مشاريع طموحة مثل أرشيف الصحافة الالكترونية الشجاعة. بوضوح تخاف الحكومات من حرية الانترنت، وتزيد جهودها لوقف التدفق الحر للمعلومات (تحت ستار مكافحة الفحش ومكافحة الارهاب). كما أن هناك أناركييون آخرون يعارضون الاتصالات الإلكترونية، سواء لأنهم يرفضون "الوساطة" أي "التفاعل الذي ليس وجها لوجه"، وبسبب الآثار البيئية الضارة للتكنولوجيا.
استنتاج
باختصار، الأناركية هي فلسفة معرفة متنوعة على نطاق واسع تم اعتمادها بشكل أو بآخر من قبل مجموعة واسعة من الأفراد والجماعات، كثير منهم لا يصرحوا بتسمية أنفسهم بـ "أناركيين". تتعلق الأناركية بجميع أوجه الوجود. في التأكيد على الحرية، تقرير المصير، المسؤولية الشخصية، العمل المباشر، خلق البدائل، والتعاون الطوعى، لدى الأناركية الرؤية والمرونة لتوفير وسيلة ناجعة لتغيير حياة المرء، في حين أنها تعمل من أجل تغيير اجتماعي جذري ودائم الذي سيغير العالم.

الأحد، 7 أغسطس 2011

كتاب تربية عبد القادر الجنابي



عبدالقادر ناجي علوان الجنابي (العراق).

ولد عام 1944 في بغداد.قصد لندن أواخر يناير 1970 , ومكث فيها أكثر من سنتين, ثم ذهب إلى باريس حيث يقيم الآن, ويحمل الجنسية الفرنسية.
أسس عدة مجلات بالعربية والفرنسية والإنجليزية منها مجلات: الرغبة الإباحية, والنقطة, وفراديس.
دواوينه الشعرية: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك 1973 ـ في هواء اللغة الطلق 1978 ـ مرح الغربة الشرقية 1988 , وديوان شعر بالإنجليزية.
مؤلفاته: معارك من أجل الرغبة الإباحية (مختارات من النصوص والبيانات) ـ ثوب الماء ـ شيء من هذا القبيل ـ تدفق ـ انفرادات الشعر العراقي الجديد, كما أن له ترجمات كثيرة من الإنجليزية إلى العربية.

يبدأ الجنابي كتابه وهو سيرة ذاتية/كتابة/حلم معًا جديرًا بأحد السورياليين العرب القلائل الحالمين المتمردين بتلك الكلمات " لأن الكتابة ليست مجرد تعبير عما خفي على الكاتب في أعماقه وإنما هي كذلك جولانه على سطح الأعماق لاكتشاف ما ترسب في ذاكرته فغدا جزءا منه، فالكاتب، بقدر ما يتشرد في متيه ذاتية حرة، يولد لديه، في حمى هذا التشرد، شعور بالاستيلاء على مجمل الماضي وبالابتعاد عن كل موضوعية.
كذلك، فما يعلق في ذاكرته من كلام الآخرين يتقمص أحيانا كثيرة معاني غير تلك التي قصد إليها أصحابه. ويؤول هذا – أن ذاكرة الكاتب ليست تراكمية انتفاعية ، يؤول، في هذه الصفحات، إلى حصر بعض الاقتباسات بقوسين ( ) لتذكير القارئ، فقط، بأنها ليست لي، وإن تكاد تكون من صلب ما أفكر به، دون ذكر "على حد قول"، أو "كما قال"، ذكر غالبا ما يرتد خيانة لغائية قائلها الباطنة.
(والآن، وقد أعطيتك، يا عزيزي القارئ، المفاتيح، هاك الأقفال... افتحها، فكل الأبواب تفضي إلى عين الرواق الذي هو البداية والنهاية ولا ينتهي إلا حيث يبدأ). "


الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

الثورة الفرنسية العظمى بيتر كروبوتكين ترجمة مازن كم الماز


الثورة الفرنسية العظمى
بيتر كروبوتكين (1909)
ترجمة مازن كم الماز

مقدمة المترجم
هذان فصلان من كتاب بيتر كروبتكين عن تاريخ الثورة الفرنسية البرجوازية العظمى , يتمتع تحليل كروبوتكين بأهمية خاصة في أيامنا , إنه بقراءته للماضي , للتاريخ , لتاريخ ثورة سابقة , يساعد في قراءة الحاضر , حاضر ثوراتنا , و مستقبلها , و ضمنا مستقبل شعوبنا و ثوراتها و مستقبل البشرية أيضا ….

الفصل الأول
التياران الرئيسيان في الثورة

كان هناك تياران رئيسيان أعدا و قاما بالثورة الفرنسية العظمى . أحدهما و هو تيار الأفكار ( التيار الفكري ) الذي تركز حول إعادة التنظيم السياسية للدولة , جاء من الطبقات الوسطى , أما ( التيار ) الآخر , و هو تيار الأفعال , جاء من الناس ( الشعب People ) , من كل من الفلاحين و عمال المدن , الذين أرادوا أن يحصلوا على تحسينات فورية و محددة في أوضاعهم الاقتصادية . و عندما التقى هذان التياران و انضما معا كان ذلك سعيا وراء تحقيق هدف مشترك . عندما كان هذا الهدف مشتركا بينهما لبعض الوقت , و عندما ساعد أحدهما الآخر لبعض الوقت , كانت النتيجة هي الثورة .
قام فلاسفة القرن ال 18 منذ وقت طويل بتفنيد أسس مجتمعات القانون – و النظام في تلك الفترة , حيث كانت السلطة السياسية و القسم الأعظم من الثروة بيد الأرستقراطية و الكهنوت , بينما لم يكن جمهور الناس إلا حيوانات للحمل ( أو للنقل ) بالنسبة للطبقات الحاكمة . بإعلان سيادة العقل , و بالتبشير بالثقة في الطبيعة الإنسانية – التي جرى إفسادها كما قالوا من خلال المؤسسات التي اختزلت الإنسان إلى عبد , لكن مع التأكيد بأن سيستعيد كل مزاياه عندما يتنزع حريته – فقد فتح هؤلاء الفلاسفة مشاهد جديدة أمام البشرية . بإعلان المساواة بين البشر , من دون أي تمييز بسبب الولادة , و بمطالبة كل مواطن , سواء أكان ملكا أم فلاحا , بالانصياع للقانون , و افترضوا أنه لا بد من التعبير عن إرادة الشعب من قبل ممثليه , و أخيرا , بالمطالبة بحرية التعاقد بين بشر أحرار , و بإلغاء الضرائب و الخدمات الإقطاعية – بطرح كل هذه الأقوال , و ربطها معا مع نظام و أسلوب مميزين للفكر الفرنسي , فقد حضر الفلاسفة دون شك , على الأقل في عقول الناس , لسقوط النظام القديم .
لكن هذا وحده لن يكون كافيا ليؤدي إلى اندلاع الثورة . فما زال أمامها مرحلة الانتقال من النظرية إلى الفعل , من فكرة مثال ما أعلى إلى وضعه في التطبيق . و النقطة الأكثر أهمية في دراسة تاريخ تلك المرحلة هي أن نوضح الظروف التي جعلت من الممكن للشعب الفرنسي في لحظة معينة أن يتمكن من تحقيق ( تطبيق ) هذا المثال الأعلى – أي محاولة نقله من النظرية إلى الفعل ( التطبيق ) .
من جهة أخرى , قبل 1789 بوقت طويل , كانت فرنسا قد دخلت بالفعل في مرحلة ثورية . كان وصول لويس 16 إلى العرش في 1774 البداية لسلسلة كاملة من اضطرابات الجوع . استمرت هذه الاضطرابات حتى 1783 و بعدها جاءت مرحلة من الهدوء النسبي . لكن بعد 1786 و خاصة بعد 1788 انفجرت تمردات الفلاحين من جديد بقوة متجددة . كانت المجاعة هي السبب الرئيسي للاضطرابات الأولى , و بقي نقص الخبز دائما أحد الأسباب الرئيسية للانتفاضات . لكن رفض الفلاحين دفع الضرائب الإقطاعية كان هو الذي دفعهم إلى الثورة . أخذت الانتفاضات تتزايد في العدد حتى عام 1789 , في تلك السنة أصبحت هذه الانتفاضات عامة ( شاملة ) في الشرق و الشمال الشرقي و الجنوب الشرقي من فرنسا . بهذه الطريقة بدأ تقسيم الجسم الاجتماعي . لكن Jacquerie ( يمكن ترجمتها بالعامية أو الانتفاضة الفلاحية , أطلقت على انتفاضة الفلاحين الفرنسيين في شمال فرنسا عام 1358 التي قمعها النبلاء الفرنسيون بقسوة , عرفت الثورة بهذا الاسم لأن النبلاء اعتادوا على نعت فلاحيهم ب”جاك” , و من ثم أصبحت ترمز للثورات الفلاحية في أوروبا في أواخر العصور الوسطى عموما – المترجم ) ليست ثورة , حتى عندما تأخذ اشكالا رهيبة كما جرى في انتفاضة الفلاحين الروس في 1773 تحت راية بوغاتشوف . الثورة هي بالتأكيد أكثر من سلسلة من الانتفاضات في المدينة و الريف . إنها أكثر من مجرد صراع بين الأحزاب , مهما كان عنيفا , أكثر من مجرد حرب شوارع , و أكثر من مجرد تغيير في الحكومة , كما جرى في فرنسا عام 1830 و 1848 . الثورة هي إطاحة سريعة , في غضون عدة سنوات , بالمؤسسات التي احتاجت إلى قرون لكي تتغلغل في تربة المجتمع , و تبدو ثابتة بحيث أنه حتى أكثر المصلحين حماسة لن يجرؤ على مهاجمتها في كتاباته . إنها سقوط , انهيار و في وقت قصير , لكل ما كان يشكل حتى ذلك الوقت جوهر الحياة الاجتماعية , الدينية , السياسية و الاقتصادية في شعب ما . إنها تعني الإطاحة بالأفكار المكتسبة و المفاهيم المقبولة فيما يتعلق بكل من المؤسسات و العلاقات المعقدة للجماعة الإنسانية .
إنها باختصار ولادة أفكار جديدة تماما فيما يتعلق بالصلات المتفرعة في المواطنة – أفكار ستصبح في الرقيب العاجل حقائق , و تبدأ بعدها بالانتشار بين الشعوب المجاورة , هازة العالم بأسره و محددة للعصر القادم شعاره , مشاكله , علمه , و اتجاهات تطوره الاقتصادي و السياسي و الأخلاقي .
لنصل إلى نتيجة بهذه الأهمية , و لحركة يمكن اعتبارها جزءا من ثورة , كما جرى في انكلترا بين 1648 و 1688 و في فرنسا بين 1789 و 1793 , لا يكفي أن تظهر حركة فكرية مهما كانت هامة , بين الطبقات المثقفة , لا يكفي أن تحدث اضطرابات مهما كانت كبيرة أو عديدة في قلب الشعب . الفعل الثوري الذي يأتي من الشعب يجب عليه أن يتزامن مع حركة فكرية ثورية تأتي من الطبقات المثقفة . يجب أن يكون هناك اتحادا بين الاثنين .
لهذا وقعت الثورة الفرنسية , مثل الثورة الانكليزية من القرن الذي سبقها , في لحظة كانت فيها الطبقات الوسطى التي تشربت بعمق مصادر الفلسفة الراهنة لتصبح واعية بحقوقها , و لتضع مخططا جديدا للتنظيم السياسي . قوية في معرفتها و متحمسة لأداء مهمتها , شعرت هذه الطبقات بأنها قادرة على الاستيلاء على الحكومة بانتزاعها من أرستقراطية القصر التي كانت , بعجزها و طيشها و فجورها تدفع المملكة نحو الخراب . لكن الطبقات الوسطى و المتعلمة لم يكن بمقدورها أن تفعل أي شيء لوحدها لو لم يتحرك جمهور الفلاحين , نتيجة سلسلة طويلة من الظروف , و ابتداءا بسلسلة من الانتفاضات المتواصلة التي استمرت 4 سنوات , التي وفرت الفرصة للطبقات الوسطى الساخطة لمحاربة كل من الملك و البلاط , و لإزعاج المؤسسات القديمة و تغيير الدستور السياسي للمملكة .
ما يزال تاريخ هذه الحركة المزدوجة بحاجة لأن يكتب . لقد قيل تاريخ الثورة الفرنسية العظمى و أعيد مرات عديدة , من وجهة نظر أحزاب مختلفة , لكن حتى الآن حصر المؤرخون أنفسهم في التاريخ السياسي , تاريخ انتصار الطبقات الوسطى على حزب البلاط و المدافعين عن مؤسسات الملكية القديمة .
لذلك نعرف الكثير مثلا عن المبادئ التي هيمنت على الثورة و التي ترجمت إلى عمل قانوني . لقد أسعدتنا الأفكار العظيمة التي قدمتها الثورة إلى العالم , أفكار حاولت البلدان المتمدنة أن تضعها موضع التطبيق طوال القرن 19 . لقد درس التاريخ البرلماني للثورة , حروبها , سياستها و دبلوماسيتها , درس و حدد بالتفصيل . لكن التاريخ الشعبي للثورة ما يزال بحاجة لأن يقال . الدور الذي لعبه الشعب في الريف و المدن في الثورة لم يدرس أبدا و لم يرو بكليته . من بين التيارين الرئيسيين اللذين صنعا الثورة , فإن نعرف عن التيار الفكري , أما التيار الآخر , تيار الفعل الشعبي , فإنه لم يرسم بعد .
إنها مهمتنا , نحن ورثة أولئك الذين سماهم معاصروهم ب”اللاسلطويين” ( الأناركيين ) , دراسة التيار الشعبي و محاولة إعادة بناء صفاتها الرئيسية على الأقل .
نقلا عن http://dwardmac.pitzer.edu/anarchist_archives/kropotkin/frenchrev/i.html

الفصل الأخير
الخاتمة

عندما يرى المرء الجمعية الوطنية الفظيعة و القوية تحطم نفسها في 1794 – 1795 و الجمهورية القوية و الفخورة تختفي . بينما تسقط فرنسا بعد نظام المديرين ذا المعنويات المنهارة ( المحبطة ) (حكومة المديرين 1795 – 1799 , حيث تمثلت السلطة في 5 مدراء , ترافق لك أيضا باستبدال حق التصويت العام بالتصويت المحدود وفقا لملكية الشخص , واجهت حكومة المديرين كلا من الملكيين و اليعاقبة بالقوة , فيم بعد سيقوم جنرال الجيش بونابرت الذي نظم حملة القمع هذه بانقلاب في 18 برومير و هو أحد أشهر التقويم الجمهوري الموافق 9 ديسمبر كانون الأول 1799 ليقيم ديكتاتوريته الخاصة , أولا كقنصل ثم كإمبراطور – المترجم ) تحت النير العسكري لبونابرت , يجد المرء نفسه مدفوعا للتساؤل : “ما هو الجيد في الثورة إذا كان الشعب سيقع ثانية تحت نير الطغيان ؟” . تكرر هذا السؤال في سياق القرن 19 باستمرار و قد استخدمه الجبناء و المحافظون كحجة ضد الثورات عموما .
الصفحات السابقة تعطينا الجواب . أولئك الذين يرون في الثورات تغييرا في الحكومة فقط , أولئك الجاهلون بعملها الاقتصادي و التثقيفي , هؤلاء فقط يمكنهم طرح هذا السؤال .
فرنسا التي نراها في الأيام الأخيرة من القرن 18 في لحظة الانقلاب داخل القصر في 18 برومير , ليست هي فرنسا التي وجدت قبل 1789 . هل كان من الممكن لفرنسا القديمة , الفقيرة بشكل بائس و التي يعاني ثلث سكانها سنويا من الحاجة ( الجوع ) , أن تتحمل الحروب النابليونية , التي جاءت بعد وقت قصير من حروب الجمهورية بين 1792 و 1799 , بينما كانت أوروبا كلها تهاجمها ؟
الواقع هو أن فرنسا جديدة قد تشكلت منذ 1792 – 1793 . صحيح أن الندرة ( النقص – الشح ) استمر بالوجود في كثير من الأقسام , و يمكن الشعور بكل الرعب الناجم عن ذلك خاصة بعد انقلاب ترميدور ( ترميدور تعبير عن الردة الرجعية و الإرهاب الأبيض الذي وقع بعد إعدام روبسبير في يوليو تموز 1794 – المترجم ) , عندما ألغي الحد الأعلى لأسعار كل المواد الغذائية . كانت هناك بعض الأقسام التي لم تنتج ما يكفي من القمح لإطعام نفسها , و مع استمرار الحرب , و تخصيص كل وسائل النقل لصالح إمداداتها , كان هناك شح في هذه الأقسام أيضا . لكن كل شيء كان يثبت أن فرنسا كانت تنتج عندها من ضروريات الحياة من كل نوع أكثر بكثير مما كانت تنتجه في عام 1789 .
لم تشهد فرنسا أبدا مثل هذه الزراعة النشيطة . يخبرنا ميكيليت أنه في عام 1792 كان الفلاحون يحرثون الأراضي التي أخذوها من ملاك الأرض , و من الأديرة و الكنائس , و كان ينخز ( يحث ) ثوره و هو يصرخ : “ليسقط الألمان ! ليسقط النمساويون ! ” . لم يجر أبدا مثل هذا التنظيف للأرض من قبل – حتى الكتاب الملكيون يعترفون بذلك – كما في سنوات الثورة . أول محصول جيد في عام 1794 حمل النجدة لثلثي فرنسا – على الأقل في القرى , لأنه طوال ذلك الوقت كانت المدن مهددة بنقص الطعام . ليس أنها كانت شحيحة في فرنسا كلها , أو أن بلديات ( مجالس بلدية ) ذوي السراويل الطويلة Sans-culottes ( تعبير أطلق على الثوار ذوي الأفكار الراديكالية من الطبقات الدنيا – بروليتاريا المدن خاصة – و الذين شكلوا أساس الجيش الثوري الفرنسي في الأعوام الأولى للثورة و قد استمر نفوذهم في الثورة بين عامي 1792 و 1795 , كانوا يدافعون عن الديمقراطية الشعبية و المساواة الاقتصادية و الاجتماعية و المحافظة على أسعار معقولة للغذاء في متناول الجميع و رفضوا اقتصاد السوق الحر و دعموا اليسار “المتطرف” كمجموعة الغاضبين , تعرضوا للقمع الشديد في فترة الردة الرجعية في ترميدور – المترجم ) , تجاهلت أن تقوم بالإجراءات اللازمة لإطعام أولئك الذين لم يجدوا عملا , لكن من حقيقة أن كل حيوانات النقل التي كانت تستخدم في قد كرست لحمل الطعام و الذخيرة إلى جيوش الجمهورية ال 14 . في تلك الأيام لم تكن هناك سكك حديدية , و كل الطرق ما عدا تلك الرئيسية كانت في الحالة التي عليها اليوم في روسيا – مزرية جدا .
كانت فرنسا جديدة تولد أثناء تلك السنوات الأربعة من عمر الثورة . لأول مرة منذ قرون أكل الفلاح حتى الشبع , و رفع ظهره و تجرأ على الكلام . اقرأ التقارير التفصيلية فيما يتعلق بعودة لويس 16 إلى باريس , عندما أعيد مسجونا من فارني في يونيو حزيران 1791 من قبل الفلاحين , تقول تلك التقارير : “هل هذا ممكن بالفعل , مثل هذا الاهتمام بالشأن العام , لمثل هذا الحماس لهذا الشأن العام , و لمثل هذا الاستقلال في الحكم و العمل أن يكون ممكنا قبل 1789 ؟” . لقد ولد شعب جديد في هذه الأثناء , تماما كما نرى اليوم شعبا جديدا يولد إلى الحياة في روسيا و تركيا .
بفضل هذه الولادة الجديدة كانت فرنسا قادرة على الاستمرار في حروبها في ظل جمهورية نابليون و أن تحمل مبادئ الثورة العظمى إلى سويسرا , إيطاليا , إسبانيا , بلجيكا , هولندا , ألمانيا و حتى حدود روسيا . و عندما بعد هذه الحروب , بعد أن نتابع الجيوش الفرنسية إلى مناطق بعيدة مثل مصر و موسكو , عندما نتوقع أن نجد فرنسا في عام 1815 و قد أصبحت ترزح في بؤس مخيف و قد أصبحت أراضيها بورا , نجد عوضا عن ذلك أنه حتى في المناطق الشرقية و في جورا , أن الريف ( البلد ) مزدهر أكثر بكثير مما كان عليه عندما قام بيتشيون , مشيرا إلى لويس 16 , عند الضفاف الفاخرة للمارن , عندما سأله فيم إذا كان هناك في أي مكان في العالم مملكة أجمل من تلك التي لم يكن الملك راغبا بالحفاظ عليها .
هكذا كانت الطاقة الداخلية ( الموجودة في الذات ) التي خلقتها الثورة في القرى , بحيث أن فرنسا في عدة سنوات أصبحت بلد الفلاحين الأثرياء ( المرتاحين ) و سرعان ما اكتشف أعداؤها أنه على الرغم من كل الدم الذي قدمته و الخسائر التي تعرضت لها , فإن فرنسا فيما يتعلق بإنتاجيتها , كانت أغنى بلد في أوروبا . لكن ثروتها لم تأت من الأنديز أو من تجارتها الخارجية : لقد جاءت من تربتها نفسها , من حبها لهذه التربة , من مهارتها و صناعتها . كانت أغنى بلد , بسبب تقسيم ثروتها و و ما زالت الأغنى بسبب الإمكانيات التي فتحتها الثورة أمامها فيما يتعلق بالمستقبل .
هكذا كان تأثير الثورة . و إذا رأى المراقب العادي في فرنسا النابليونية حب المجد فقط , فإن المؤرخ يدرك أنه حتى عندما شنت فرنسا الحرب في تلك الفترة فإنها قد فعلت ذلك لكي تضمن الحفاظ على ثمار ( نتائج ) الثورة – لكي تحافظ على الأرض التي أخذتها من الإقطاعيين , و القساوسة و الأغنياء , و على الحريات التي انتزعتها من الاستبداد و البلاط . لو أن فرنسا كانت راغبة في تلك السنوات بأن تنزف حتى الموت فهذا كان لكي تمنع الألمان و الانكلز و الروس من فرض لويس ال 18 عليها , هذا لأنها لم ترغب في عودة النبلاء المهاجرين الذي كان سيعني أن النبلاء الموالين للملكية سيستردون الأرض التي رويت بالفعل بعرق الفلاحين , و سيلغون الحريات التي عمدت بدماء الوطنيين . و قد قاتلت فرنسا جيدا بالفعل طوال 23 سنة , و عندما أجبرت في النهاية على الخضوع لآل بوربون , كانت هي التي فرضت شروطها عليهم . استعاد البوروبون السلطة لكن الأرض بقيت بيد من استولوا عليها من أيدي الإقطاعيين , بحيث أنه حتى في أثناء الإرهاب الأبيض لآل بوربون لم يتجرؤوا أبدا على لمس هذه الأرض . لم يكن من الممكن إعادة النظام القديم ثانية .
كان هذا ما جرى كسبه من صنع ثورة كهذه .
هناك أشياء أخرى يجب الإشارة إليها . ففي تاريخ كل الشعوب يأتي وقت عندما يتحتم أن يجري تغيير جذري في كل الحياة الوطنية . كان الطغيان الملكي و الإقطاعية يموتان في عام 1789 , و كان من المستحيل إبقاءهما على قيد الحياة , كان عليهما أن يذهبا .
لكن بعد ذلك , فتح أمام فرنسا طريقان : الإصلاح أو الثورة .
في أوقات كهذه هناك دائما لحظة ما يزال الإصلاح فيها ممكنا , لكن إذا لم يتم استثمار تلك اللحظة , و إذا استمرت المقاومة الصلبة ( العنيدة ) معارضة متطلبات الحياة الجديدة , حتى اللحظة التي يبدأ فيها الدم يسيل في الشوارع , كما سال في 14 يوليو تموز 1789 ( يوم الاستيلاء على الباستيل – المترجم ) , عندها يجب أن تحدث الثورة . و ما أن تبدأ الثورة , حتى يصبح ضروريا أن تتطور لتصل إلى أبعد نتائجها – أي كما يمكن القول إلى أقصى نقطة يمكن أن تبلغها – و ذلك بشكل مؤقت فقط , في ظرف محدد معطى من الوعي الجماعي في تلك اللحظة .
إذا مثلنا التقدم البطيء لفترة التطور بخط يرسم على الورق , سنرى هذا الخط يرتفع تدريجيا و إن ببطء . بعدها تقع الثورة و يقوم عندها هذا الخط بقفزة مفاجئة للأعلى . في انكلترا سيكون الخط صاعدا حتى الجمهورية البوريتانية لكرومويل , في فرنسا سيرتفع حتى جمهورية أصحاب السراويل الطويلة لعام 1793 . لكن عند هذا الارتفاع لا يمكن المحافظة على التقدم , كل القوى المعادية ستجتمع معا ضده , و ستبدأ الجمهورية بالتراجع . خطنا سيبدأ بالانحدار بعد أن يكون قد وصل أقصى ارتفاعه , مع الردة الرجعية . بالنسبة للحياة السياسية في فرنسا فقد انحدر هذا الخط جدا بالفعل , لكنه يبدا بالصعود تدريجيا بعد ذلك , و عندما سيتم التوصل إلى السلم في عام 1815 في فرنسا , و في 1688 في انكلترا – سنجد أن كلا البلدين قد بلغا مستوى أعلى بكثير مما كانا عليه قبل ثورتيهما .
بعد ذلك , يستأنف التطور : يبدأ خطنا بالارتفاع ببطء و لكن إلى جانب أنه يبدأ من مستوى مرتفع جدا , فإن صعود الخط سيكون أسرع في كل حالة تقريبا مما كان عليه قبل فترة الاضطراب .
هذا هو قانون التقدم الإنساني , و أيضا قانون التقدم الفردي . يؤكد التاريخ الأقرب لفرنسا هذا القانون بإظهار كم هو ضروري أن نمر عبر الكومونة لنصل إلى الجمهورية الثالثة .
لا يقتصر عمل ( إنجاز ) الثورة الفرنسية فقط على ما حققته و ما بقي من هذا في فرنسا . بل سنجده أيضا في المبادئ التي أورثتها للقرن التالي – في الاتجاه الذي وجهت المستقبل نحوه .
إن الإصلاح هو دائما مساومة مع ( تنازل تجاه ) الماضي , لكن التقدم الذي يتحقق من خلال الثورة هو دائما وعد بتقدم مستقبلي . لو أن الثورة الفرنسية العظمى كانت تلخيصا لتطور استمر قرنا من الزمان , فإنها كانت بدورها برنامج التطور الذي كان يتعين إنجازه في سياق القرن 19 .
إن هذا هو قانون في تاريخ العالم أن تمر فترة 100 أو 130 عاما , تقريبا , تفصل بين ثورتين عظيمتين , تأخذ طابعها من الثورة التي بدأت هذه المرحلة بها . تسعى الشعوب لكي تحقق في مؤسساتها الإرث الذي ورثته من الثورة الأخيرة . كل الأشياء الجديدة التي لم يمكن وضعها بعد في الممارسة ( في التطبيق ) , كل الأفكار العظيمة التي جرى تداولها أثناء الاضطراب الأخير , و التي استطاعت الثورة أو لم تستطع أن تعرف كيف تطبقها , كل محاولات إعادة البناء الاجتماعية , التي ولدت أثناء الثورة , ستشكل مادة التطور أثناء الفترة التي ستتلو الثورة , مع إضافة تلك الأفكار الجديدة التي سيخلقها هذا التطور , عندما يحاول أن يضع في الممارسة البرنامج الذي حددته الثورة الأخيرة . عندها , ستقع هناك ثورة جديدة في شعب آخر , و هذا الشعب بدوره سيحدد المشاكل التي يجب حلها في القرن التالي . هكذا هو اتجاه التاريخ .
انتصاران عظيمان ميزا القرن الذي مر منذ 1789 – 1793 . كلاهما يدينان بأصلهما إلى الثورة الفرنسية , التي واصلت عمل الثورة الانكليزية فيم ضخمته و عززته بكل التقدم الذي صنعته منذ أن قامت الطبقات الوسطى الانكليزية بقطع رأس ملكها و نقل سلطته إلى البرلمان . هذان الانتصارين الكبيرين هما : إلغاء القنانة و إلغاء الملكية المطلقة , انتزع الفرد من خلالهما حرياته الشخصية , التي لم يكن القن يحلم بها في ظل الإقطاعي و لا التابع الخاضع للملك المطلق , بينما أدت في نفس الوقت إلى تطور الطبقات الوسطى و النظام الرأسمالي .
يمثل هذين الإنجازين العمل المبدئي للقرن 19 , الذي بدأ في فرنسا في عام 1789 و انتشر ببطء في كل أوروبا على امتداد القرن .
تحرير العبيد , الذي بدأه الفلاحون الفرنسيون في 1789 استمر في إسبانيا , إيطاليا , سويسرا , ألمانيا و النمسا من قبل جيوش ذوي السراويل الطويلة . لسوء الحظ بالكاد وصل هذا العمل إلى بولندا و لم يتمكن من الوصول إلى روسيا على الإطلاق .
إلغاء القنانة في أوروبا كان سيكتمل في النصف الأول من القرن 19 لو أن البرجوازية الفرنسية التي وصلت إلى السلطة في عام 1794 على أجساد و جثث اللاسلطويين ( كرس كروبوتكين فصلا من كتابه عن تاريخ الثورة الفرنسية العظمى عن اللاسلطويين فيها – المترجم ) , . Cordeliers( أعضاء جمعية سياسية فرنسية راديكالية – المترجم ) , اليعاقبة ( نسبة للنادي اليعقوبي 1789 – 1794 , ثوريون برجوازيون فرنسيون كانوا من دعاة جمهورية شديدة المركزية و عملوا على تحقيق أهدافهم غالبا بأساليب تآمرية , يعتبرون أسلاف الراديكاليين السلطويين فيما بعد – المترجم ) , لم تكبح الاندفاع الثوري , و تعيد الملكية و تسلم فرنسا إلى المشعوذ الإمبريالي نابليون الأول . هذا الذي كان في السابق من ذوي السراويل الطويلة ذات يوم , و الذي أصبح الآن جنرالا على ذوي السراويل الطويلة هؤلاء , بدأ بونابرت هذا بسرعة بدعم الأرستقراطية , لكن الدفعة كانت قد حدثت بالفعل , و كانت مؤسسة القنانة قد تلقت ضربة مميتة بالفعل . حيث ألغيت في إسبانيا و إيطاليا على الرغم من الانتصار المؤقت للرجعية . و تعرضت لضغط قوي في ألمانيا بعد عام 1811 و اختفت من هذا البلد تماما في عام 1848 . في 1861 أجبرت روسيا على تحرير أقنانها , و وضعت الحرب الأولى لعام 1878 نهاية للقنانة في شبه جزيرة البلقان .
اكتملت الآن الحلقة . لم يعد حق أصحاب الأراضي ( الإقطاعيين ) على شخص الفلاح موجودا في أوروبا , حتى في تلك البلدان التي جرى فيها التعويض عن المستحقات الإقطاعية .
هذه الحقيقة لا يقدرها المؤرخون بشكل كاف . كونهم منشغلين بالمسائل السياسية , فإنهم لم يفهموا أهمية إلغاء القنانة , التي كانت الميزة الضرورية للقرن 19 . المنافسة بين الشعوب ( الأمم ) و الحروب التي نتجت عنها , سياسات القوى العظمى التي تحتل الكثير جدا من اهتمام المؤرخ , جميعها نشأت من حقيقة واحدة عظمى – و هي إلغاء القنانة و تطور نظام العمل المأجور الذي حل مكانها .
الفلاح الفرنسي ( الذي حرر نفسه ) في ثورته قبل 120 عاما ضد الإقطاعي الذي كان يفرض عليه أن يضرب الاشجار كيلا يزعج نقيق الضفادع نوم سيده , قد حرر أيضا فلاحي أوروبا كلها . في 4 أعوام فقط أولا بإحراقه الوثائق التي تسجل خضوعه , ثم بإحراقه القلاع و بإعدامه ملاك الأرض ( الإقطاعيين ) الذين رفضوا الاعتراف بحقوقه كإنسان , كان الفلاح الفرنسي يؤثر في أوروبا كلها التي أصبحت جميعها اليوم حرة من مهانة ( ذل ) القنانة .
من جهة أخرى احتاج إلغاء السلطة المطلقة لأكثر قليلا من مائة عام ليعم أوروبا كلها . هوجمت لأول مرة في انكلترا في عام 1648 , و هزمت في فرنسا في عام 1789 لم تعد السلطة الملكية التي تقوم على الحق الإلهي آمنة في روسيا نفسها , فهناك أيضا هي في نزاعها الأخير . حتى دول البلقان الصغيرة و تركيا لديها الآن جمعيات تمثيلية , و روسيا تدخل نفس الدورة أيضا .
في هذا الصدد حققت ثورة 1789 – 1793 أيضا عملها . احتلت المساواة أمام القانون و الحكومة التمثيلية الآن مكانهما في كل تشريعات أوروبا . نظريا على الأقل لا يميز القانون بين البشر و لكل شخص الحق في المشاركة في الحكومة . لقد اختفى الملك – السيد المطلق على أتباعه , و الإقطاعي – السيد على أرضه و فلاحيه , بحق الولادة . إن الطبقات الوسطى تحكم أوروبا اليوم .
لكن في نفس الوقت ورثتنا الثورة العظمى بعض المبادئ الأخرى ذات أهمية أكبر بشكل لا يقارن , هي مبادئ الشيوعية . رأينا كيف أن الأفكار الشيوعية بقيت طوال الثورة العظمى تتقدم نحو المقدمة , و كيف أنه بعد سقوط الجيرونديين ( خصوم اليعاقبة و أنصار الحلول الأقل راديكالية و ثورية , هم من شجعوا بونابرت على تنفيذ انقلاب عسكري ضد الجمهورية و سهلوا نجاحه – المترجم ) جرت محاولات عديدة و أحيانا محاولات عظيمة في هذا الاتجاه . تنحدر الفوريية ( نسبة للاشتراكي الفرنسي شارل فورييه 1772 – 1837 , اشتراكي “طوباوي” فرنسي – المترجم ) بشكل مباشر من لانغي من جهة و من شاليير ( جوزيف شاليير 1747 – 1793 , يعقوبيا يساريا , أعدم عام 1793 – المترجم ) من جهة أخرى . كان بابوف ( فرانسو نويل – بابوف , 1760 – 1797 , منظر و سياسي و محرض فرنسي شيوعي , عارض اتجاهات حكومة المديرين و الردة الرجعية التي سبقتها , أعدم لدوره في مؤامرة EQUALS , الداعين إلى المساواة , وصف غودوين بارمبي أفكار بابوف بالشيوعية لأول مرة , يعتبر بابوف من أوائل الشيوعيين السلطويين – المترجم ) وريثا مباشرا للأفكار الذي أثرت في الجماهير بحماسة في عام 1793 , هو و بوناروتي ( فيليب بروناروتي 1761 – 1837 , اشتراكي إيطالي “طوباوي” , كلفه الثوريون الفرنسيون بتنظيم الثوريين الإيطاليين في فرنسا , اعتقل لمشاركته في مؤامرة الداعين إلى المساواة و نفي من فرنسا ليعود إليها بعد ثورة 1830 , أثر في بلانكي الاشتراكي السلطوي الفرنسي المعروف – المترجم ) و سيلفيان ماريشال ( 1750 – 1803 , شيوعي “طوباوي” , ملحد و مدافع عنيد عن الفقراء , لم يشارك في الصراع بين اليعاقبة و الجيرودنديين , شارك في مؤامرة الداعين إلى المساواة – المترجم ) قاموا فقط بتنظيمها ( منهجتها ) قليلا أو صاغوها في شكل أدبي فقط . لكن الجمعيات السرية التي نظمها بابوف و بوناروتي كانت هي أصل الجميعات الشيوعية المادية السرية التي نظم من خلالها بلانكي و باربيس مؤامراتهما ضد الملكية البرجوازية للويس فيليب . فيما بعد في عام 1866 ظهرت جمعية العمال العالمية الأممية كنتيجة مباشرة عن هذه الجميعات . إن “الاشتراكية” كما نعرفها اليوم , لقد أخذ هذا اللفظ يروج لتفادي كلمة “الشيوعية” التي أصبحت خطيرة لأن الجمعيات الشيوعية السرية الأولى هي جمعيات فعل و قد قمعتها البرجوازية التي كانت يومها في السلطة بقوة .
هناك لذلك صلة مباشرة بين مجموعة الغاضبين لعام 1793 ( مجموعة راديكالية على يسار اليعاقبة , آمنوا بالحرية للجميع في مواجهة الحريات الدستورية , دعمهم ذوي السراويل الطويلة – بروليتاريا المدن , بينما حاربوا ديكتاتورية روبسبير , سحقوا في فترة الردة الرجعية و الإرهاب الأبيض , فيما بعد أطلقت مجموعة من طلاب جامعة نانتير في فرنسا هذا الاسم عليها في عام 1968 – المترجم ) و مؤامرة بابوف عام 1795 و جمعية العمال العالمية الأممية بين عامي 1866 – 1878 .
هناك أيضا تتال مباشرة لأفكار أخرى . حتى الآن لم تضف الاشتراكية المعاصرة أي شيء على الإطلاق للأفكار التي انتشرت بين الفرنسيين ما بين عامي 1789 و 1794 , و التي حاولت أن تضعها موضع التطبيق في السنة الثانية من حكم الجمهورية . لقد نظمت ( منهجت ) الاشتراكية المعاصرة فقط هذه الأفكار و وجدت حججا في صالحها , إما بأن تحول ضد اقتصاديي الطبقة الوسطى بعضا من تعريفاتهم هم أنفسهم , أو بتعميم حقائق معينة لوحظت في سياق تطور الرأسمالية الصناعية في القرن 19 .
لكني أسمح لنفسي بالقول أيضا أنه مهما قد تكون غامضة و مهما كان محدودا الدعم الذي حصلت عليه من الحجج التي كانت ترتدي لباسا علميا و مهما كان محدودا استخدامها للغة العلمية العامية الكاذبة لاقتصاديي الطبقة الوسطى , فإن الشيوعية الشعبية للسنتين الأوليتين من الجمهورية كانت أكثر وضوحا , و ذهبت أعمق في تحليلها مما فعلت الاشتراكية المعاصرة .
و قبل أي شيء , كانت الشيوعية توجد في استهلاك ضرورات الحياة – و ليست في الإنتاج فقط , كان جمعنة ( جعله كومونيا ) و تأميم ما يعرفه الاقتصاديون بالاستهلاك – التي ركز جمهوريو 1793 اهتمامهم عليها , عندما حاولوا إقامة مخازن الحبوب و المؤن في كل كومونة , و عندما مضوا قدما في البحث الهائل لإيجاد القيمة الحقيقة للأشياء ذات الضرورة الأولوية و الثانوية و تثبيت تلك القيمة , و عندما ألهموا روبسبير ( 1758 – 1794 , برجوازي يساري سلطوي , قاد فترة الإرهاب المعادي للرجعية التي انتهت بإعدامه – المترجم ) ليعلن أن الغذاء الوفير فقط يجب أن يصبح موادا للتجارة , و أما هو ضروري فهو ملك للجميع .
بينما ولدت من الضرورات الضاغطة لتلك السنوات الصعبة , فإن شيوعية 1793 , مع تأكيدها على حق الجميع في البقاء ( المعيشة ) و في الأرض لينتجوا منها , و رفضها لحق أي شخص في أن يملك من الأرض أكثر مما يمكنه و أسرته أن يزرعها – أي ليس أكثر من مزرعة تبلغ مساحتها 120 هكتار – و محاولتها جمعنة كل التجارة و الصناعة – هذه الشيوعية ذهبت بشكل أكثر استقامة إلى قلب الأشياء من برامج الحد الأدنى في وقتنا , أو حتى من كل المقدمات القصوى لهذه البرامج * .
في كل الأحوال , ما نتعلمه اليوم من دراسة الثورة العظمى هو أنها كانت مصدر و منشأ كل المفاهيم الشيوعية , اللاسلطوية و الاشتراكية الحالية . لقد فهمنا على نحو سيء فقط أمنا المشتركة , و لكننا وجدناها اليوم ثانية وسط أصحاب السراويل الطويلة , و نرى أنه علينا أن نتعلم من دراستها .
لقد تطورت الإنسانية عبر مراحل متتالية و كانت علامة هذه المراحل لمئات عدة من السنين هي الثورات الكبرى . بعد هولندا جاءت انكلترا و ثورتها بين 1648 – 1657 , و بعدها كان الدور على فرنسا . كل ثورة كبرى كان فيها , إلى جانب سابقاتها , شيء خاص بها و أصلي . لقد ألغت كلا من انكلترا و فرنسا الملكية المطلقة . لكن عندما قامت انكلترا بذلك كانت مهتمة أساسا بالحقوق الفردية للفرد خاصة فيما يتعلق بأمور الدين , إضافة إلى الحقوق المحلية لكل أبرشية و تجمع . فيما يتعلق بفرنسا فقد ركزت اهتمامها على مسألة الأرض , و على الإطاحة النهائية بالنظام الإقطاعي و ضربت أيضا الثروات الكبيرة , و قدمت للعالم فكرة تأميم الأرض و تأميم التجارة و الصناعات الرئيسية .

( * ) أي من الشعوب سيأخذ على عاتقه المهمة المرعبة لكن المجيدة للثورة العظمى القادمة ؟ قد يعتقد المرء أن الدور سيكون على روسيا . لكن إذا كان عليها أن تدفع ثورتها أبعد من حدود القوة الإمبريالية , فعليها أن تقارب مسألة الأرض بروح ثورية – كم ستذهب بعيدا في ذلك ؟ هل ستعرف كيف تتجنب الخطأ الذي وقعت بها الجمعيات الفرنسية , و هل ستجمعن الأرض و تعطيها لأولئك الذين يريدون زراعتها بأيديهم ؟ نحن لا نعرف : إن أي جواب على هذا السؤال ينتمي إلى مجال التنبؤ فقط .
( * ) هناك شيء واحد أكيد , هو أنه أيا تكن الشعوب التي ستدخل في مسار الثورة في يومنا هذا , فإنها ستكون وريثة لكل ما فعله أسلافنا في فرنسا . إن الدم الذي أراقوه أريق في سبيل الإنسانية – و المعاناة التي تحملوها كانت ولادة لكل الجنس البشري بأسره , لقد أصبحت نضالاتهم , الأفكار التي قدموها للعالم , و الصدمة التي سببتها هذه الأفكار كلها أصبحت جزءا من إرث البشرية بأسرها . جميعها حملت ثمارا و ما تزال تحمل , ثمارا أحلى , و مع تقدمنا نحو الآفاق العريضة التي فتحتها أمامنا, حيث تضيء هذه الكلمات مثل مشعل يدل على الطريق : الحرية , المساواة و الإخاء .
نقلا عن http://dwardmac.pitzer.edu/anarchist_archives/kropotkin/frenchrev/conclusion.html